قصة الرجل المثري مع صاحبه
كان رجل مثرٍ قد أعطاه الله من أصناف المال المتنوع 
من : عقار ، 
  ونقود ، وعروض ، أموالاً كثيرة .
  وكان له صاحب يعرف منه النصح والعلم .
  فقال لصاحبه ، شاكيا له الحال :
  ألم تر ما أنا فيه من الغنى الواسع ، والأموال الكثيرة ؟
  والناس كالمتفقين على أن من كان كذلك ، فقد حصلت لـــه السعادة 
  الدنيوية ، والعيش الهين ، والحياة السعيدة . وأنا - فيمــا أنا فيه - 
  لم أدرك ما ذكروا ، ولم أزل أتنقل من هم إلى كدر ، ولم تحصل لي 
  اللذة الصحيحة في حياتي . فأحب أن ترشدني - يا صاحبي - إلى 
  الحياة السعيدة ، وإلى الراحة في حياتي .
  فقــال لـه  صاحبه  : يا أخي ! اعلم أن من أتى الأمور من غير أبوابها 
  وطرقها ، وسلك للمنافع غيــر مسالكها لم يدرك المطلوب ، ولم ينج 
  من المرهوب . وأنت جعلت الدنيا أكبر همك ، ومبلغ علمك، وحبيبك 
  الوحيد الذي ملك عليك ظاهرك وباطنك ، ومشاعرك وحواسك كلها .
  ومـن كان كذلك فهو طبعا لا يستريح في دنياه ، فإنه إن حصل عليه 
  كساد ، أو خسارة في بيع وشراء ، أو نقص فـي ثمار ، أو تشوشت 
  عليه الأسباب في جهة من جهات دنياه ، فإنه في كدر ، فضلا عـــن 
  الأكدار التي تنتابه من جهة الأهل والعائلة والمعاملين والمعاشرين، 
  واختلاف الإرادات، وتعذر الاتفاق، والانسجام بينهم من كل وجه ، 
  أو تعسر ذلك .
  فقال له  المثري  : صدقت ، من هذه الجهات كلها ومن غيرها، يأتيني 
  الكدر ، والهم ملازم لي في كل أحوالي ، فهل من سبيل إلى تخفيف 
  ذلك ، أو زواله بالكلية ؟ فقد ضاقت علي الحيل والمحاولات ، 
  وأنا حريص على راحة نفسي بأي سبيل .
  فقال له  صاحبه  : يأخي ! السبيل واضح ، ولكن ما دامت خطتك على 
  هذا المنوال ، فغير ممكن لك العيشة الهنيئة ، فإن غيرت خطتك ، 
  وفهمت ما أقول لك ، وعملت عليه ، رجوت لك الخير ، والحياة 
  الطيبة السعيدة .
  فأول ذلك : أن تعلــم علــم اليقين أن الدنيا والأموال المتنوعة ليست 
  هي المقصود لذاتها، وإنما هي مقصودة لغيرها، ووسيلة يتوسل بها 
  العبد إلى منافعه الحقيقية ، ومطالبه الأبدية ، وسعادته الأخروية .
  فــاجـعل - يا أخي - هـــذا المعنى الذي لا يستريب فيه العقلاء نصب 
  عينيك ، وقبلة قلبك ، ثــم اسع فــي تحصيل الدنيا وفــي تصريفها ، 
  وفي تدبيرها - من كل جهة - على هذا الأساس ، واستصحب النية 
  الصادقة في جميع نواحي حياتك ، سعيا وتدخيلا وتصريفا .
  فـإذا عاملت الناس ببيع وشراء وتأجير ومشاركات وغيرها ، فاقصد 
  بذلك القيام بالواجبات والمستحبات، والاستغناء عن الخلق، واقتصر 
  على المعاملات الطيبة الحلال . واجتهد في أن تكون مكاسبك كلهـــا 
  حلالاً، وأن تصرفها في الواجبات من الزكاة والنفقات، والمستحبات 
  وتوابعها . تقرب بذلك إلى الله ، واحتسب عنـــده الأجــر والثواب ، 
  واحمد ربك الذي أقدرك علـى المال ، ثم وفقك في صرفه في الوجوه 
  النافعة التي تبرئ بها ذمتك ، وتكتسب بهـا الأجر العظيم عند الله ، 
  وتكــــون لك مغنما لا مغرما . فإنك إن فعـلــت ذلك ، هانت عليـــك 
  النفقات ، وبذلتها بسماحة ورغبة ، وعلـم بأنها تكسب لك أمثالها 
  أضعافا مضاعفة . ومــع ذلك ، فـإذا حصل فيها ما تحب من زيادة 
  ونمو وكمال، فأكثر من حمد الله وشكره، وإذا حصل فيها ما تكره، 
  فاحتسب ذلك عند الله ، واعتبرها من المصائب التي يعوض الله 
  الصابرين عليها من الأجر أضعاف أضعاف ما فاتهم .
  فإنك إن وفقت لذلك ، حصلت لك الحياة الطيبة ، وهـــي راحة القلب 
  وطمأنينته ، وطمعه في فضل الله وثوابه في كل حالة ، وفــي كـــل 
  وقت .ومع ذلك، فإنه لا يفوتك من نصيبك من الدنيا، ولا من لذاتها 
  شيء ، بل تستوفيها كاملة هنيئة ، تفوق فيها لذة المترفين 
  ونعيمهم ، ويجمع الله لك بين خيري الدنيا والأخرة .
  واعلم أن هذا ليس بعسير ، بل هو يسير على من يسره الله عليه .
  ومن ذاق طعم هذه الحياة، علم أن هذه الحياة التي يسعى لها الخلق 
  وأرباب الدنيا وجمهورهم ، لم يدركها الساعي بل مات بغمه 
  ولم يذق لها طعما . 
  ولكنك - يا أخــي - تحتـاج إلى تمرين كثير ، وتغيير لطبيعتك الأولى 
  حيث ملكت الدنيا عليك مشاعرك وأمورك كلها ، وتستعين الله على 
  ذلك ، فمن توكل عليه أعانه وكفاه .
  فوا أسفا لمن أعطوا نصيبا من الدنيا فخسروها ، وأعطوا الأسباب 
  التي تدرك بها الخيرات فلم يستعملوها ، ووهبت لهم المواهب 
  المتنوعة فلم ينتفعوا بها ، ويستغلوها ! 
  وما أحسن ما قاله الحكيم في شعره :
  ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام !
  كتاب الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة فـي العقائد والفنون 
  المتنوعة الفاخرة ( ص 193 )
 للشيخ عبدالرحمن السعدي